الأحد، 18 سبتمبر 2016

قراءة نقدية بو قاسم في «كنت أسمي الأزرق أحمر!»

من منتصف الديوان تماما سأنطلق في قراءتي لنصوص عمر، تحديدا من «ونختم السهرة بضحكات متقطعة» من ختام السهرة من الحد الفاصل بين الفرح والبؤس، الحد الفاصل بين العذوبة والملوحة، من البحر الذي انقلب وهاج، الذي تحول من حالة إلى حالة، هكذا هي قصيدة (كنت أسمي الأزرق أحمر) كالبحرِ تماما؛ بدأت القصيدة آمنة مطمئنة تسير بهدوء وفرح، تتحدث عن المقهى ونهاية الأسبوع تتحدث عن الأصدقاء وثرثرتهم وتنوع أفكارهم وثقافتهم ثم ضحكاتهم، هذا ما كان عليه الجزء الأول من النص، مليئا فرحا وحبا، حديثا شيقا ممتعا، تطرق للممتعة في ثرثرة الأصدقاء كـ الحديث عن كتاب أو كرة قدم أو حدث بارز أو تغريدة لافتة أو حتى الثورات العربية.
ولكن تبدأ نقطة التحول من بعد تلك الضحكات المتقطعة، تتلبد السماء، تغيم الأجواء، ترتفع الأصوات وتهب الأعاصير، تبدأ رحة الأوجاع لأسبوع كامل دون مسكنات، وقد يتضاعف ذلك الأسبوع مرة أو مرات، حسب أمزجة الأصدقاء وظروفهم، تلك الضحكات المهدئة تتبعها ليلة طويلة مليئة بالأوجاع لا القهوة ولا الطرقات ولا أضواء المدينة تخفف هذه الأوجاع مثلما يفعل لقاء الأصدقاء.
يأبى الشاعر إلا أن يجد مسكنا بديلا لأوجاعه، إنه الهذيان؛ هو الحل الأخير هو المخرج من هذا الليل الكئيب، تأخذه الذكريات إلى البدايات البعيدة وتناقضاتها إلى الطفولة بكل براءتها ودهشتها إلى الأشياء التي كانت تثير الدهشة في ذلك الحين، إلى البحر والخارطة والمدرسة والمدرسين ينقله الهذيان إلى التفاصيل الدقيقة يتأملها ويضحك نفس تلك الضحكة التي كان يضحكها وهو طفلا..
شاعر به بعض من تأبط شرا والشنفرى وبقية الصعاليك ولكن مجده عفويته، وفخره سلميته.. يظهر كما هو تماما. كما يقول: (والكذب ميزة العازب!) ثم يكرر الجملة مع إعادة صفها.. (نعم ميزة العازب الكذب). شعرت وكأنه أمامي كأني أسمعها منه، حتى لو لم أعرفه فيستمثل أمامي رجل غريب يلقي قصيدة حرة بعفوية متناهية.
جميع قصائد الشاعر تشبهه بل تتطابق معه تماما، في نص (تقرير يخلو من أخطاء) يتحول الشاعر فجأة من حالة إلى حالة، ومن مكان إلى آخر، فهو ينتقل فجأة من ساحة قصر خزام إلى مالي، ثم إلى عدل بكرو الموريتانية الرابط بين كل تلك الأماكن المتباعدة هو البؤس، أو بمعنى أكثر دقة الرابط هو حالة الاختناق التي بداخله.
يستهل نصه بالحمام وينهيه بالحمام، يبحث عن مدينة تشبه الحمام، وبكل ما يعنيه الحمام من رقة وسلام، من زينة وآمان، يحلم بكائنات بِلا أخطاء، إنه يهذي بمن تحقق حلمه، بمن ستكون حمامته، تلك التي ستحتوي نزقه، وتقلبات مزاجه، ثم تروض المارد بداخله، وتجعله كالخاتم في يدها يملكها وتملكه، وتعامله كأنه طفلها الشقي.
في النص التالي (الوسادة) يستمر حلم الشاعر أو هذيانه ولكنه هذه المرة سكران، نص فيه من القسوة الكثير ولكن تتجلى الرقة في أسمى معانيها عندما يكرر مناديا بِلا وعي.. جمانة جمانة جمانة.. إذن، جمانة هي حمامته، هي أمنه وسلامه، هي زينته والروح التي تداوي أوجاعه.
وفي النص الذي يليه والذي استعار اسمه وأطلقه على كامل المجموعة، تستمر أوجاعه ولكن ثمة أصدقاء يخرجونه من تلك الأوجاع كـ مسكن خفيف يمنحه الدفء لبعض الوقت الأمر الذي يجعله يستعير من هذا النص عنوانه ويضعه على غلاف مجموعته، ليس لأنه الأفضل؛ فالشاعر لا يفاضل بين قصائده، ولكن لأن بداخله الأصدقاء الذين يمنحونه وقتا قصيرا يتفس فيه بعمق وينسى معهم أوجاعه.
ينتقل الشاعر إلى نصٍ جديد، إلى حالة جديدة، تلك الحالة هي محاولة لأن ينتصر على تلك الأوجاع، وهنا تحضر الشمس وتصبح 
قراءة: حسين الغامدي
خياره الذي يستمد منها طاقته، والتي يستعين بها لحرق كل أوجاعه، قد تكون بديلا جيدا للحمام، ولكن الشمس التي لا تظهر إلا في النهار ليست بديلا جيدا لجمانة التي كانت تظهر في كل الأوقات.
ثم ينتقل إلى حالةٍ أخرى ونص جديد؛ وكأن الشمس منحته بعض الطاقة؛ فتذهب ذاكرته إلى البعيد، إلى أولئك الأكثر وجعا منه، إلى صاحب العملة المعدنية، وصاحب قفص العصافير، وأطفال البوظة، إلى الناس الموجوعين البسطاء الذين يبحثون عن سلام؛ مجرد سلام، ولكن النظام الذي يدكهم بأسلحته يحرمهم حتى من أشيائهم البسيطة.
ويستمر الشاعر، وتستمر حالة التغلب على الأوجاع، ففي نص (ملجأ) يستعيد الشاعر كبرياءه وقوته، كأنه كتب القصيده وهو واقف على قدميه، كتبها وهو يستعير ملامح الغاضب دونما ابتسامة وبعينين متسعتين، كتبها محاولا الانتصار على الحنين الذي يطارده.
وفي النص الأخير يهزمه الحنين، يعود الإنسان الذي بداخل الشاعر، ويعود الحمام وكأن الحنين إلى جمانة يعود ثانية، ثم يبدو وكأنه يدندن «الرفاق حائرون يتهامسون». ينشر صوره، وصوره القديمة، وصوره القديمة جدا، والقهوة المرة، والتجاعيد التي تختفي عندما يتقاسم الأصدقاء الضحك.

http://www.okaz.com.sa/new/issues/20150903/Con20150903793990.htm

السبت، 10 سبتمبر 2016

شجرة يسقيها الشاي

أشعار عن الحياة

تمثل الكلمات الثلاث التي عنون بها الشاعر مسفر الغامدي مجموعته «شجرة يسقيها الشاي» دلالات مختلفة، فالشجرة هي الحياة، والسقيا الفعل المعطاء، والشاي حيث المزاج.
كلمات ليس فيها حزن، ولا العتب أو الغضب أو الإيحاء بالنقد، وهي مؤشر جيد للولوج في النصوص، وتخبرنا أن الشاعر يتحدث عن زمن ومكان آخر عن مدينة فاضلة أو هكذا كانت في عينيه، وبنظرة عامة على النصوص نجد التطبيق الفعلي للعنوان حياة وعطاء ومزاج، عاشها واقعا لا خيالا.

بين النافذة والباب

في القراءة المرة الأولى لم أحفل بالعنوان كعبارة مبتكرة، ولكن بعد ترديده رأيته مموسقا يعكس فرحًا، ومن حيث الصورة فالشجرة التي يسقيها الشاي حتما سيلوّنها ويرفعها للأعلى، فالشاي قد يكون نبيذا.
يجبرنا الغامدي أن نلج مجموعته من النافذة بدلًا من الباب، والذي أتى كعنوان لأحد النصوص ولكن بعد «النافذة» بمسافة، وكأنها دلالة معينة، لم تكن في وعيه.
النافذة هي الحب الأول والنشوة والذكرى الجميلة، أخذت مشروعيتها في وجود «الباب» الذي أتى بعدئذ، ولو لم يأت «الباب» لكانت «النافذة» غير صالحة.

شجرة العائلة

ونجد التكرار من النص الأول، في كلمة «جبل»، ولكنها كل مرة تضيف شيئا ما وكأنها كلمة جديدة، الجبل الذي كوّن جيشا من الحرس يوجّه الناس للحصول على المعلومة من المصدر الحقيقي حسب رأي الشاعر، باختصار نصٌ عميق رغم التمجيد للخرافة.

نسيان

في نص «نسيان» ذلك النص الحزين المغلف بالسخرية، اتضحت عبارة «إن البشارة ناقصة»، التي أتت في النص الذي يسبقه، عندها أدركت أن النصوص تسير وفق تسلسل زمني مقصود، وغير محبذ لشخص مثلي يبدأُ قراءة الدواوين من منتصفها والجرائد من آخرها.

تسلسل زمني

النصوص التالية: التفاحة، وراء الباب، البئر، سنيهيوت، سنة أولى وغيرها، تؤيد أن الشاعر قصد تسلسلا زمنيا استمر كسيرة ذاتية مكتوبة بالشعر، فالزمن يحضر بشكل لافت، ومن خلالها يصوغ الشاعر حياته والبيئة من حوله، ويوثّق نموذجا لمكان وزمان بلغة الشاي، ولا تخلو من رؤيته المؤيدة أحيانا مثل «لكنه أجمل خطأ أرتكبه في حياته»، أو الآراء الرافضة مثل «قبل أن تنتشر الأمية فيما بعد».

مفارقة

ولا تخلو النصوص من مفارقات الحياة ومفاجآتها، ففي نص «البئر» مثلا يقوم الأب بإعداد الابن للحياة التي عاشها الأب، ولم يعلم أن هناك حياة مختلفة تماما سيعيشها ابنه.
وتستمر المفارقة في نص «سنة أولى» مخلوطة بعذوبة الطفولة وحنان الأم، وتتمثل لي تلك الصورة «فيما أمشي وأنظر إلى الخلف» يهزني المشهد لأنني عشته واقعا، ومن ثمّ يطمئن قلبي بأن ما أقرؤه شعرا، شعر خالص حتى لو كان بدون وزن أو قافية.

مبالغة وإرباك

أتجولُ في النصوص متوقفا في نصِّ «بكاء» وأتذكر قول الناقد الدكتور حسن النعمي «الشعر لغة استثنائية وصورة مركبة ومجاز لا يكاد يلامس الواقع، وروح غارقة في تأملاتها، وإذا حضرت القصيدة بهذه الأبعاد تحركت في المتلقي حواس الجمال وقيم الإنسان العليا».
ومع ذلك توقفت عند عدد من الملاحظات كانت الأولى في نص «سنة ثالثة» في عبارة «وأن يدي ستنفصل عن جسدي» رأيت فيها مبالغة أفقدت النص عفويته.
وفي نص «طَرَف» وتحديدا «إلى درجة أنني كنت أظن» إلى آخر المقطع، رأيت أن دخول الأنا أربك النص وأفقده انسيابيته، وفي نص «صلاة الجمعة» وردت عبارة «يريد أبي أن أتقرب إلى الله ببقرة سمينة، لا مجرد بيضة صغيرة لا تغني ولا تسمن من جوع».
رأيتها زائدة والزوائد تفقدُ القصيدةَ الحديثةَ خاصيتها، وكان بالإمكان أن يستقيمَ النص بدونها.
تقبلت نص النائمون مضمونا وليس شكلا، فالحوارية في النصوص الشعرية تحتاج إلى زمن آخر كي يؤمن المتلقي بها، ولم أجد روح الشعر في «الجريمة»، وتكرار الفعل يقول في نص الثُقب لم يكن موفقا كما كان في نص نافذة، وفي «الأسماء» لم يكن الشاعر سيعجز عن صياغة مختلفة ولكن يغفر له جمال العبارة الأخيرة.

تأمل النصوص

وفي المقابل استوقفتني نصوص مدعاة للتأمل، مثال على ذلك «أمل حياتي»، والذي يعكس الذائقة الأصيلة والفن العميق التي انتمى لها الشاعر في وقت مبكر من حياته، ونصُّ «سقيا» فهو وجه آخر لعنوان المجموعة، ورأيت رتما مشوقا في نصِّ «العصا»، ورأيت في «البيت» قصيدةً تامة، ولم أجد تعليقا على نكهة نص «السحارية» و»الرسالة»، وتوقفت في نص «برزخ» متأثرا بكل ما يحمله من ألم وإنسانية، كان نصا أسمى من الشعر بدرجة كما وصف سعد زهير المجموعة، وقال «إنها أكثر سموا من الشعر، أذكر أنني أجبته حينها قائلا: ولكنه ليس وحيا إلا لو كان من الشيطان، فالشيطان والشعر توأمان، والشعر ومسفر وجهان لعملة واحدة».


http://www.makkahnewspaper.com/makka...8#.VVCYpZDNtjp


http://www.twaslghamd.com/?p=19161



https://www.facebook.com/hussain505/posts/10206460396410013

السبت، 28 نوفمبر 2015

دبي مدينة ليس عليها صلاة


 

              تقرير/ حسين بن محمد الغامدي

 
 

 تستقبلك بدون غرور، تستقبلك وفي عينيها ابتسامة وبعضٍ من فرحة تتوقع أنها ستفتح ذراعيها وتحتضنك ولكنها لا تفعل فكل ما تفعله أنها تتهيأ لك لتحتضنها أنت (كم أنت مدللة يادبي !) هذا الانطباع الأول الذي كونته عنها في أول لقائي بها، تحتفي كثيرا بالغرباء إلى درجة العشق أحياناً، تعامل الجميع كلهم سواسية لافرق بين خليجي و آسوي إلا بالأكثر أناقة، دبي مدينة تعشق الثقافة والمثقفين لديها كتاب من ألف صفحة تصطحبه معها أينما ذهبت وتتصفحه كل وقت وأي وقت. لم تفقد جاذبيتها رغم أنها تضخمت بعض الشي لا زالت جميلة وتعجب العشاق كثيراً، دبي التي لا تشرب الخمر قد تفعل أحيانا عندما تطير فرحا هي تعشق القهوة وأحيانا قد تشرب الليمون بالنعناع لتهدئ من قلقها واضطرابها، دبي لا تهاب العابرين أو الغرباء وقد تضحك أمامهم بصوت عال بل أحيانا تتحرش بهم وتمنحهم بعض من نظراتها وابتسامتها وسخريتها وقد تتغزل بهم وتسألهم بـ ود من أين أنتم ؟

تمنح البعيدين بعض من إغراءاتها وتجيد استمالتهم وتلمّح لهم بأنها لا تمانع من معاشرتهم لها فيحضروا إليها بشوق وحماس وعندما يصلون تفاجئهم بقولها أنا مدينة كامرأة ليس عليها صلاة!

دبي قد تثور فجأة ثم تعاود الابتسام سريعا كطفلٍ أبيض، يكفي أن تنظر إليها نظرة طويلة نوعاً ما لتبتسم بعفوية وتنسى ما آثارها، ثمّة أشخاص لا يمكن أن تغضب عليهم؛ بل تمنحهم كامل رضاها وحنانها وقبلاتها وربما شفتيها ليس لأنهم أثرياء ولا لأنهم يملكون جاه أو سلطان وليس لأنهم فنّانين أو مبدعين أو حتى وسيمين، هي تختارهم وفق مزاج معقد وألوان متداخلة تختارهم لتحبهم وتقربهم حتى لو كانوا مجرد عمّال المهم أنها قررت أن تحبهم والتزمت بهذا القرار.

دبي مدينة عربية بـ استايل غربي تعشق المتاحف وكأنها فتاة يابانية وتلتزم بالأنظمة والقوانين تتقبلها تماما ولا تخالفها وفي ذات الوقت فهي مدينة سخيّة إلى حد التبذير، دبي لا تغار من المدن المجاورة ولا تكرهها وتتعامل معها بكل حياد أما في المفاضلة فهي تفضل الرجال وتصادقهم وتقترب منهم أكثر من النساء.

عندما تغضب ويعتريها الغيم وتكفهّر ملامحها تنتظر أمطارها تسيل على خديها ولكن هذا لا يحصل! كل ماتفعله تعود لكتابها ذو الألف صفحة تتصفح عشرات الصفحات وأحيانا مئات في بضع ثواني لتنسى غضبها، في خضم ذلك تقهقه فجأة ؛ تنظر إليها تسألها ماذا جرى تجيبك بأن عبارة في الكتاب الذي تقرأه أضحكتها، تسأل عن تلك العبارة تجدها عادية ولكن دبي قولبتها بطريقتها الخاصة وجعلت منها فنّاً ساخرا وسردا شيقا يستحقُ القهقهة.

دبي مدينة لا يشرد ذهنها كثيرا ولا يتشتت ولكنها عندما تفعلُ ذلك تحيل الأجواء إلى كآبة وملل، وفي أوقات قليلة قد تزعجك ولكنك لا تملك إلا أن تحتويها هي تستحق الاحتواء لأنها تقدم لك الفرح. مدينة مثل دبي لا تحب البقاء في البيت ولا تعود إليه إلا للنوم فقط أغلب أوقاتها خارج المنزل هي مدينة الشمس والقمر مدينة النجوم والأبراج المنتصبة عليها بحذر لتمنعها من الطيران والتحليق عالياً، دبي مدينة دافئة لا تعرف البرد رغم الغيوم التي تعتريها أحيانا وقد تمنحك بعض نسمات الهواء اللذيذة في فترة متأخرة من الليل وبعض أطراف النهار، لاتحب أن يتم عزلها أو يغلق أحدا عليها الأبواب وابتداء من الصباح الباكر تضع احمر الشفاه على شفتيها والظلال على عينها وتخرج بصحبتهما، لا تستخدم المكياج كثيرا قد لا تحتاج إليه لأنها بيضاء البشرة، بها بعض المسحة الفارسية عينيها الواسعتين وشعرها الناعم والمنسدل خلف ظهرها بألوانه الزاهية ملامحها بشكل عام تقول ذلك، هي ليست مدينة فاضلة ولكنها ذات قبول للآخرين، هي مدينة حمراء ولكنها تحب الألوان الفاتحة وترتدي الأبيض كثيرا ولا تتعرى إلا في غرفتها الخاصة.

دبي لديها القدرة على قراءة مافي نفوس الآخرين واكتشاف مايفكرون به قد تقرأ ذلك من خلال عينيها وأحيانا ربما تقول أن لديها شياطين يخبرونها بما يفكر به الشخص المجاور لها، لديها بعض الملاحظات الدقيقة مرة قالت : من يحب (شارع العطايف) لايحب (ترمي بشرر) والعكس صحيح ، وكأنها تقول من يحب جدة لا يحب الرياض ومن يحب الرياض لا يحب جدة.

دبي مدينة تملك من الذكاء الكثير وتفكر في عشرات الأشياء في وقت واحد يخال إليك أحيانا أنها مدينة عبقرية تعرف كل شي ولكنك تستغرب أحيانا عندما تجدها لا تعرف بعض الأشياء البديهية، دبي تتكلم الانجليزية بطلاقة وسرعة وتستوعب المتحدثين بها بسرعة أيضا تتعامل معها كالعربية تماما، هي مدينة متعددة ومنفتحة تستوعب الكثير من الأطياف والمذاهب والثقافات والعادات، مدينة ذات لهجة خليجية ولكنها بيضاء وواضحة للآخرين .

ليس لديها ولعاً كثيرا بأشكال الناس ولا تبيّن أن لديها ميول للتصوير إلا أنها تلتقط الصور دون أن يشعر الآخرين وربما التقطت لهم الصور وهم في أوضاع لا يحبذونها ولكن لأنها دبي فهم يتقبلونها منها برحابة صدر وابتسامة رضى.

دبي مدينة لا ترتدي الجينز ولا تهتم بالبرستيج ولكنها في الوقت ذاته ليست بالمدينة الشعبية هي مزيج من هذا وذاك؛ وربما نقول أنها تخلو من هذا وذاك؛ هي مدينة معقدة بل مدينة سهلة، كم أنتِ غريبة يادبي! لازالت عاجز عن وصفها وتحديد هويتها؛ لازلت أجهلها!.

الأربعاء، 15 يناير 2014

العصفورة ( قصة فصيرة ) 19/5/2010

 
 
في مرحلة من مراحل الطفولة كانت إحدى اهتماماتنا نحن أبناء القرى العاملين بالزراعة إتقان صيد العصافير وكان ذلك يتم عبر ما يسمى بالمنسبة ، وتلك المنسبة تتكون من حجر من نوع خاص وأعواد وطُعم . الحجر يكون على شكل دائرة بقطر يقارب 20سم ويكون رفيع وخفيف حتى لا يقتل العصفورة ؛ فقط يكتفي باحتجازها ،بعدها يتم حفر حفرة صغيرة بحجم العصفور ثم نضع الطعم ونسند الحجر على ثلاثة أعواد بحيث يكون قابل للسقوط عند أي اهتزاز خفيف .
تأتي العصفورة لتلتهم الطُعم وحتما ستصطدم في طريق دخولها بأحد الأعواد فينطبق الحجر عليها وتحتجز داخل تلك الحفرة . ونطلق على تلك العملية اصطلاحا "فقست المنسبة "، وكم هي الفرحة عندما "تفقس المنسبة" وتزداد الفرحة عندما تجد العصفور حيا ، ومع الرفاق يتفاخر كلٌ بصيده .
في بداية ولعي بالعصافير وفي إحدى مزارعنا أعددتُ "منسبتي" جيدا اخترت المكان والوقت وتركتها وذهبت وبعد ساعات عُدت ووجدت "المنسبة فقست" .
ومن تحت ذلك الحجر وبهدوء مددت أطراف أصابعي بخفة تحسست الأماكن والزوايا ولكن لم أشعر بشيء حركت يدي يمينا وشمالا فلا فائدة .. قلت في نفسي لعل ريح أو شيء ما اسقط ذلك الحجر .
بعد أن فقدت الأمل رفعت الحجر لأعيد الكرة مرة ثانية ؛ إلا أنني تفاجأت بعصفورة ذات عينين سوداويتين ضاحكتين وجسد غض وجناح مفرود تفرّ من تحت ذلك الحجر ؛ حلّقت تلك الجميلة عاليا متجه شمالا ثم جنوبا حلقت بداية بارتفاع قريب ثم ارتفعت شيئا فشيئا وأنا أتابعها بنظري حتى ابتعدت ثم اختفت .
احتقنت في داخلي كيف يفوتني ذلك الصيد الثمين وتلك الفرصة التي لا تقدر بثمن .
أعددت العدة أن تكون العصفورة الأولى والأخيرة التي تفلت من بين يدي . إلا أنني عندما تذكرتها في ذلك المساء القريب المؤرق تذكرت سِرب من العصافير طار بعد تلك العصفورة ولكن لم أبالي ولم أهتم به مثلما هو الحال مع العصفورة الأولى .

الخميس، 21 نوفمبر 2013

تقرير عن زيارة معرض الرياض للكتاب


تم كتابة هذا التقرير في 12/3/2010

أنا والرياض وجها لوجه
كنتُ مقبلٌ عليها بحب وفرح كعادتي عندما ازور الرياض فلا زال لي فيها بقايا من طفولة وذكريات وأيام ممتعة، قدمت من المطار وعندما أصبحت محاذيا لمشروع ضخم مكتوب عليه جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن رأيت ذرات الغبار تتصاعد إلى السماء وبدأت أعمدة الكهرباء تضيء الرياض وبدأت المدينة الواسعة ليلة جديدة بل كانت ليلة من الليالي الفاصلة في تاريخها، إنها ليلة من ليالي معرض الكتاب للعام 2010 الليلة التي استلم فيها المثقفون السلطة من الصحويين ليكونوا هم أصحاب الكلمة والرأي والراية هم الأكثرية وهم أصحاب المسئولية ولم يعد للمتدينين غير ركن صغير في نهاية المعرض عليه لافتة مكتوب عليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وصلت إلى المعرض عن طريق بوابته الشمالية ليشير إليّ رجل الأمن بأن اتجه للبوابة الجنوبية وهناك كانت كثافة السيارات فوق العادة لتعطي هذه الزحام أول دلالة بأن ثمة شيء ما تغير وأن الإقبال على الكتب ليست أقل من الإقبال على مقاضي رمضان.بالكاد وجدت موقف لسيارتي بالقرب من بوابة 3 وهي البوابة الأبعد عن مدخل المعرض ، ومن بين السيارات الواقفة والمزدحمة ومرورا بتجمع السائقين والأمن والمطعم والصالات وصلت إلى صالة المعرض وكنت كالتائه بين مئات دور النشر وآلاف الكتب لا أعلم من أين ابدأ وإلى أين أذهب وهنا أدركت أهمية أن يكون لديك قائمة .

أنا والرطيان
في أول جولة لي على المعرض وجدت نفسي أمام "طوى" رأيت في الداخل رجلا وكان يتحدث مع صاحب الدار وكأنه يرتبط به بعلاقة أو صداقة سمعته يقول له : لااا !!! من قال لك ؟ (وكأنه قال له خبر مفاجئ ) أجاب صاحب الدار : ( مكتوب في جسد الثقافة ) واستطرد قائلا لا أعلم لو كان صحيح أم لا ! .. لفتت انتباهي كلمة "جسد الثقافة" عندها حاولت أصغي وأركز أكثر ولكن الحوار توقف ، عندما أدار ذلك الرجل وجهه لي أيقنت أنني قد رأيته .. ولكن أين ؟!!!! كان رجلا أنيقا ممتلئا ليس بالمتين وليس بالنحيف يميل إلى الطول قليلا سريع الحركة يتحدث بلهجة شمالية شبه نجدية ، تشاغلت بالكتب التي في مقدمة الدار وتفكيري في من هو ذلك الرجل ؟ وقعت عيني على عسس وتقرير ليوليس قيصر وماتبقى من اوارق محمد الوطيان .. تنفست بعمق فقد أنحل اللغز فهذا الشخص الجالس هو محمد الرطيان وكي أتأكد سألت صاحب الدار هذا هو الرطيان أجاب بنعم ! لمحته يوقع لأحد الزوار وسمعتهما يعلقان على توقف مقالاته في الوطن .اشتريت ثلاثة كتب من طوى من ضمنها رواية الرطيان . كنت مستسخف حكاية التواقيع ولكن عندما رأيت الرطيان جالسا أمام الدار وكتابه بيدي شعرت أنني لي رغبة في الحديث معه وأحصل على توقيعه والتوقيع أيضا بوابة ومدخل للحديث مع المؤلف . في فترة هدوء اتجهت إلى الرطيان وسلمت عليه قام من على كرسيه وقلت وقع لي يامحمد أخذ الكتاب وبدأ يكتب الإهداء زودته باسمي .. وقلت له أجلس يامحمد علشان خطك يطلع حلو.. استعذبت لطفه ودردشت معه قليلا قبل أن أودعه وأكملت جولتي .

التجمهر حول دار الساقي
  أمام دار الساقي كان عدد من الناس متجمهرين وكان هناك أصوات مرتفعة اقتربتُ كان هناك شخص عليه سمات العلماء يلبس العباءة وفي يده كتاب على غلافه صورة نانسي عجرم وعنوانه "نانسي ليست كارل ماركس" ، كان يتجادل مع شخص خمسيني اسمراني طويل ورشيق تكسو ملامحه بقايا "سربته" أراه الشيخ الكتاب ليقنعه وسأله مستنكرا ..هذا يجوز؟ أجاب ذلك الشخص معاندا : أيوه يجوز ! زاد احتدام النقاش أعتلت اصواتهما وتحول النقاش من موضوع عام إلى تحدي بينهما آثر الشيخ تهديئة الموضوع فألتفت للجمهور الملتفين وقال لا يجوز شراء هذا الكتاب خرج له اثنين آخرين محتجين على تحريمه الكتاب دار قليل من النقاش الحاد ذهب الشيخ تاركا رأيه وبعض النقاش من المتواجدين عندها قلت : " ياجماعة الرجل كان يتكلم ويقول رأيه بطريقة مهذبة لم يسيء لأحد قال ماتمليه عليه عقيدته كان الأحرى بنا عدم استفزازه والإكتفاء بقول جزاك الله خيرا دون الحاجة لإثارة مشكلة " بعدها أخذ صاحب الدار مجموعة الكتب وأخفاها لينهي تلك المشكلة .

  ألتقيت بدرية البشر
  اشتريت من دار الساقي ثلاثة كتب وعدت للتجول ثانية ، وأثناء تجولي وإذا بصوت نسائي رقيق عبر مكرفونات المعرض يعلن عن توقيع أحد الكتب .. لفت انتباهي أن يكون الصوت نسائي وبدأت أفكر في كم المتغيرات التي حصلت مؤخرا وإلى أي طريق نسير! وجدت نفسي أمام دور دول الخليج وكان خلفها ركن خاص بالطفل دخلته ووجدت زحام أمام منصتين للتوقيع كانت احدهما امونة53 التي طلعت للتو لتوقع روايتها نيولوفر وكان أمامها طابورين أحدهما للنساء وآخر للرجال ولأنني لا أحب الطوابير لذا خرجت من ركن الطفل إلى الصالة وإذ بالمذيعة تعلن أن بدرية البشر توقع أحد كتبها فجأة أصبحت أمام "ابن رشد " ورأيت بدرية بابتسامتها العذبة تجلس أمام الدار لم يكن المكان مزحوما لا يوجد غير صاحبة الدار وبدرية ورجل على مشارف الخمسين يوقع "الأرجوحة" ، تناسبني جدا الأجواء الهادئة لذا تقدمت بجرأة وأعطيت بدرية "الأرجوحة" لتوقع عليها ، دردشت معها قليلا عن مجموعتها الأولى "نهاية اللعبة" وهي المجموعة الوحيدة التي قرأتها للكاتبة ، بعد لحظات من الحديث معها أدركت أنني أمام امرأة ففقدت بعضا من جرأتي وفورا ودعتها وغادرت إلى ركن الأندية الأدبية وفي السهرة قلت لصديقي الشاعر الحداثي الساخر جدا بأن بدرية وقعت لي روايتها ومن تعليقه شعرت أنه كان بوده أن حصل على توقيعها على نفس الرواية التي اشتريتها الأمر الذي لم يشعرني بسخف مافعلت . وأمام ركن نادي الرياض الأدبي كنت متوقعا أنني سألتقي بأحد أعضاء الجسد أو على الأقل بفيصل الرويس لأحصل على توقيعه على العنقودية أشعر أنني أدمنت على الحصول على تواقيع اكتشفت ايضا أن الحصول عليها فيه بهجة كنت قبل ساعات أسخر منها ، لم أجد أحدا أمام نادي الرياض الأدبي غير البائع تجولت قليلا على أركان الأندية الأدبية المجاورة واشتريت بعض الكتب إلى أن اتصل بي صديقي العلماني المتواعد معه من قبل لنتجه نحو الثمامة لقضاء سهرة برفقة عدد من الأصدقاء العلمانيين .

سهرة شيقة مع أصدقائي العلمانيين
بين التاسعة والعاشرة وأمام درة الملك عبد العزيز التقيت أحد الأصدقاء الذي كنت متواعد معه من قبل اتصلنا بصديق ثالث يسكن الرياض وكان يحثنا على المجيء بسرعة قبل أن تنتهي مباراة الهلال وتزدحم الشوارع وهناك في المقهى كنا ننتظر صديقين آخرين وشوشني صديقي مازحا: (أفكارك المتخلفة لا تظهرها أمام الصديقين القادمين، واسترسل قائلا حاول الليلة تمثل دور العلماني) وكان يقصد بأفكاري المتخلفة هو إيماني بالغيبيات.. حضر الصديقان وبدأ النقاش حول المعرض ولقاء الوزير بالمثقفين وعن إدارة حمد القاضي التي اظهروا استياءهم لها ، ثم بدأ النقاش حول حضارية المعرض وكيف أن الكاتب أصبح نجما يذهب إليه الناس ليأخذوا توقيعه أمتد النقاش والتفاؤل ببيئة حضارية تشبه البيئة الأوربية وضربوا بأوروبا في العصور الوسطى مثالا عندما استطاعت تحجيم المؤسسة الدينية لتنهض وبدأت المقارنات بين المسجد والكنيسة، كان الأصدقاء في طرحهم يساريين متطرفين لم استطع إلا أن أتدخل لأبين لهم أن المقارنة بين ما حدث في أوروبا وهنا ظالمة محتجا بأن روح الدين هنا تختلف عن روح الدين في أوروبا واستطردت بأن الدين في أوروبا محرفا وليس كما هو الدين الإسلامي لذا المقارنة خاطئة ولن يتكرر هنا ما حصل في أوروبا .. وبناء على وجود أفكار متضادة تفرع النقاش وامتد إلى وقت متأخر من الليل كان نقاشا وديا هادئا ومفيدا وكان الأصدقاء على قدر من الثقافة يحملون مؤهلات عالية ويعملون في أماكن مرموقة .

  شوارع الرياض آخر الليل
بعد سهرة ممتعة ودعنا الأصدقاء واتجهنا إلى فندق الماريوت كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل حيث أصبحت الرياض أكثر جمالا بهدوئها ونسمات هوائها العليلة وأضوائها وشوارعها الناعمة والواسعة وأبراجها العالية، مررنا بشارع العليا الذي يقدم حضارة الرياض وعنفوانها ماضيها وحاضرها ، العليا الذي يعكس ثقافة أهل الرياض وسلوكيات شبابها حضارتهم ورقيهم وأناقتهم وولعهم بالتميز وكذلك يعكس تخلفهم وانحطاط البعض منهم .. العليا الشارع الحضاري الذي تقع عليه برجي المملكة والفيصلية ويسير فيه الأمير والفقير وعلى امتداده و تفرعاته تنتشر المقاهي والمطاعم بكل أشكالها وأنواعها . أجد متعة أثناء السير في شارع العليا لذلك أعذر الصبية الذين نراهم عند الإشارات رافعين أصوات مسجلات سياراتهم ويرقصون عليها . إنها البهجة التي تقودهم إلى ذلك ولعل بهجة وجودهم في قلب الرياض هي الدافع لذلك السلوك .

  المثقفون ولوبي الماريوت
ملامحي لا تثير أي نوع من أنواع الريبة لذلك لم يسبق لنقاط التفتيش استيقافي و أعبرها بكل سهولة وهذا ما حصل عند بوابة الماريوت دخلت إلى اللوبي في وقت متأخر من الليل ، وللوهلة الأولى كان يبدو لي أن الثائرين حققوا مطالبهم ، فقلما أجد على إحدى الطاولات رجال بمفردهم ، أغلب الطاولات يتشارك فيها الرجال والنساء (مثقفين ومثقفات) وبعضهم ذو ملامح مألوفة ، عدد ليس بالقليل من المثقفات يضعن غطاء الوجه ويشاركن في الثرثرة ، وكم هي ممتعة الثرثرة وخاصة عندما تتوفر الشروط الثلاثة ألا وهي سعة الاطلاع لمن تثرثر معهم ومشاركة الجنس الآخر والوقت وأقصد الأوقات الأخيرة من الليل، المرأة المثقفة استطاعت الحصول على الكثير من طلباتها فهي بمفردها في غرفتها في الفندق وفي مدينة غير مدينتها وتسهر حتى الفجر وتثرثر مع من تحب رجال أم نساء ، لم يبق على المثقفة إلا أن يسمح لها بقيادة السيارة ولا أعتقد أنها ستفعل لو حصل فقد فات وقت القيادة على الكثير منهن وأقصد من اللاتي لا يعرفن لقيادتها ، أما الرجل المثقف فقد حقق رغبة واحدة كان يبحث عنها طوال عمره ألا وهي تحقيق النشوة من خلال الثرثرة مع النساء في جو آمن، أكاد أجزم أن أغلب المثقفين الذين رأيتهم لا يطمعون من المرأة غير الثرثرة فأعمارهم على مشارف الستين إلم تكن تجاوزتها ولا أعتقد أن أغلبهم لديه القدرة في عمل أكثر من الثرثرة ولاسيما أن المثقف بطبعه يعشق السهر والسجائر وربما يقوده مزاجه لأكثر من ذلك .

المعرض ظهر الخميس
كنت أسرع نزيل في الفندق دخلت قبل الفجر وخرجت منه بعد الظهر مباشرة لم أكلف الفندق غير عدد قليل من الساعات وعلبة صغيرة من الشامبو وما يقارب ثلاثين لتر ماء ، لملمت أغراضي وضعتها مع حصيلتي من الكتب في الحقيبة التي لازال فيها فراغ يحتمل وجود كم ليس بسيط ، في الطريق إلى المعرض كنت أخطط على أن أتناول طعام الغداء في مطعم المعرض وعلى أن أتجول في المعرض براحتي بعيدا عن الزحام إلا أن المفاجأة أن المواقف كانت مزدحمة كما هي الليلة السابقة ، وكانت الطوابير طويلة في المطعم لذا فضلت أن أأجل طعام الغداء فيما بعد واتجهت إلى الصالة التي أصبحتُ مدركا لاتجاهاتها وبواباتها وأصبح عندي تصور لمواقع الدور وترتيبها حسب الدول ، زال شعور الدهشة وأصبح كل شي عادي ، تجولت في المعرض مابين ساعتين إلى ثلاث ساعات مرّت دون أن أشعر بها سوى شعور خفيف بألم في الظهر لعدم تعودي على اللف والدوران في الأسواق .

  البحث عن "ترمي بشرر"
لو تمنيت أكون شخص ثاني أيام المعرض لتمنيت أكون عبده خال، يستحال أن تقف دقيقة كاملة أمام دار الجمل دون أن يأتي أحدا ويسأل عن رواية عبده خال ، ليس أمام دار الجمل وحدها بل حتى في دور النشر الأخرى وغالب من يسأل من الجنس الناعم ، ظهر الخميس كنت واقفا أمام الساقي أتت فتاة وسألت البائع أين أجد الرواية التي أخذ عبده خال عليها الجائزة أخبرها البائع ثم سألت ( وش اسم الرواية ؟) ، بعدها بقليل جاءت فتاة أجمل من التي سبقتها وسألت عندكم رواية ترمي بشرر لعبده خال ؟ كان البائع متشاغلا بأشياء أخرى .. لذلك أجبتها أنا ! ولكن بدلا من أقول الجمل قلت تجدينها في (دار الجبل) وأشرت بيدي إلى ناحية أخرى غير الناحية التي فيها (دار الجمل) . لن تخسر كثيرا لأن الرواية ليست موجودة ، في الليلة السابقة كان الوعد على أن يحضروها صباح الخميس ولكن كان وعد غير صادق ، كنت بعد كل لفة في المعرض أمر بجوار دار الجمل وأقف لمشاهدة الذين يأتون يسألون عن (ترمي بشرر) ويعودون خائبين ، كنت اشعر ببعض المتعة أن أجد أشخاص يشاركوني في الخيبة (مشاركة وجدانية) ، أمام دار الساقي في الليلة التي حصل فيها الخلاف بسب كتاب نانسي وبعد أن انفض النزاع تبعه نزاع آخر بين الأتباع ، احد الشباب الملتحين وكان يقف خلف الشيخ قال لشاب صغير آخر وكان يلبس البنطال ويطيل شعره ؛ قال الأول: (ترمي بشرر) رواية ماجنة تصف الجنس سأله : الآخر: هل قرأتها؟ كنت قريب منهم تفرع الجدال بينهم مع بعض الاحتدام وطال بهم الوقت والنقاش وفي الأخير اكتشفت أن الاثنين لم يقرأوها ! أوصاني صديقي قبل أن يسافر أن اشتري له رواية (ترمي بشرر) وصديق آخر في جدة ينتظر مني أن آتي له بكم من الروايات ولو أتيت له (ترمي بشرر) لأسكته ، يبدو لي أن خالد المعالي تضجر من كثر السائلين عن ترمي بشرر لذا كان كل مرة يضع بديلا له يقف في الدار وأغلب مهام ذلك البديل أن يرد على طالبين (ترمي بشرر) بأنها ليست موجودة ، دردشت مع أحد البدلاء كان ممتليء وذو جاذبية وابتسامة تعلو محياه قلت متى تأتون بترمي بشرر وكان ذلك بين ظهر وعصر الخميس ، ابتسم وقال بعد قليل ! ثم قال :خذ لفة وتعال . أخذت لفة ورجعت لمحته يناول أحد النساء ترمي بشرر ! قلت وأنا أين نسختي؟ أجاب انتهت ! ياهوووووه توني كنت عندك! ضحك وقال : لم تكن حريص! ، شفته وهو يناولها المرأة كان حجمها كبير(أقصد الرواية وليس المرأة) سألته عن سعرها قال أربعين ريال ، يبدو لي أنها كانت النسخة الأخيرة كاد أن يعطيني أياها لو أصررت قليلا أو عدت قبل موعدي بدقيقة واحدة ! لكن لم أكن أعرف! عموما لم تكن من نصيبي وكانت من نصيب تلك المرأة (بالعافية عليها) أتمنى أن تستمتع بقراءتها، بعد قليل سيتم تكريم عبده خال في النادي الادبي بجدة بمناسبة فوزه بالبوكر ، أنا متجه الآن للنادي ربما يوزعون في ليلة تكريمه (ترمي بشرر) .

نفاد "أحببتك أكثر مما ينبغي "
عندما رأيت أول جهاز بحث الكتروني تبادر إلى ذهني أن ابحث عن رواية أحببتك أكثر مما ينبغي ولكن خذلني الجهاز لم يظهر لي أي نتيجة للبحث أيضا كان أكثر من شخص ينتظرني ليأخذ دوره في البحث لذلك غادرت المعرض دون أن أعرف في أي دور تباع كان ذلك مساءالأربعاء ، ظهر الخميس وقفت أمام جهاز بحث الكتروني في الجهة المقابلة رأيت فتاة كانت تستخدمه وقفت بالقرب منها وكانت حريصة على أن تحصل على الكتب التي تبحث عنها ، لذلك بحثت بعدة طرق لتحصل على كم كبير من كتب التسويق والإعلان والترويج تعلمت منها كيف أبحث وبالفعل بحثت باسم المؤلف أثير عبد الله غيرّت وبدلت واختزلت في الاسم حتى ظهرت لي النتائج بأن الرواية تباع في دار الفارابي ذهبت وسألته عنها قال للأسف نفدت كل النسخ .

حصيلتي من المشتريات
خرجت مساء الأربعاء بكمية خفيفة وكانت كالآتي : (هما لغازي القصيبي ، ماتبقى من أوراق محمد الوطبان لمحمد الرطيان ، الأرجوحة لبدرية البشر ، الأعمال الكاملة جار الله الحميد ، ارض بلا مطر ابراهيم الحميدان ، العنقودية لفيصل الرويس ، عسس لسعيد الأحمد ، وصناعة الحضارة لـ د طارق السويدان وكانت عبارة عن أربع اسطوانات) . أما الخميس فقد خرجت بما يلي : (عظماء بلا مدارس لعبد الله صالح جمعة ، مئة عام من العزلة لماركيز ، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشراقاته الحضارية لمحمد انس اركنه ، اضواء قرآنية في سماء الوجدان لمحمد فتح الله كولن ، رواية عودة الفرسان سيرة محمد فتح الله كولن لفريد الانصاري ، آخر الموهيكانز لجيمس كوبر ، فرسان المريمية البنفسجية لزين غراي ، لوحة دوريان غراي لأوسكاروايلد ، كلب عائلة باسكرفيل لسير ارثر كونان دويل ، القط الأسود لإدغار بو ، الجبل الخامس باولو كويللو ، تقرير إلى غريكو لنيوكوس كازانتزاكيس وترجمة محمود عدوان ) .

الأربعاء، 20 أبريل 2011

دبي مدينة ليس عليها صلاة

 تستقبلك بدون غرور ، تستقبلك وفي عينيها ابتسامة وبعضٍ من فرحة تتوقع أنها ستفتح ذراعيها وتحتضنك ولكنها لا تفعل فكل ما تفعله أنها تتهيأ لك لتحتضنها أنت (كم أنت مدللة يادبي !) هذا الانطباع الأول الذي كونته عنها في أول لقائي بها ، تحتفي كثيرا بالغرباء إلى درجة العشق أحياناً، تعامل الجميع كلهم سواسية لافرق بين خليجي و آسوي إلا بالأكثر أناقة ، دبي مدينة تعشق الثقافة والمثقفين لديها كتاب من ألف صفحة تصطحبه معها أينما ذهبت وتتصفحه كل وقت وأي وقت . لم تفقد جاذبيتها رغم أنها تضخمت بعض الشي لا زالت جميلة وتعجب العشاق كثيراً ، دبي التي لا تشرب الخمر قد تفعل أحيانا عندما تطير فرحا هي تعشق القهوة وأحيانا قد تشرب الليمون بالنعناع لتهدئ من قلقها واضطرابها ، دبي لا تهاب العابرين أو الغرباء وقد تضحك أمامهم بصوت عال بل أحيانا تتحرش بهم وتمنحهم بعض من نظراتها وابتسامتها وسخريتها وقد تتغزل بهم وتسألهم بـ ود من أين أنتم ؟
تمنح البعيدين بعض من إغراءاتها وتجيد استمالتهم وتلمّح لهم بأنها لا تمانع من معاشرتهم لها فيحضروا إليها بشوق وحماس وعندما يصلون تفاجئهم بقولها أنا مدينة كامرأة ليس عليها صلاة !
دبي قد تثور فجأة ثم تعاود الابتسام سريعا كطفلٍ أبيض ، يكفي أن تنظر إليها نظرة طويلة نوعاً ما لتبتسم بعفوية وتنسى ما آثارها ، ثمة أشخاص لا يمكن أن تغضب عليهم ؛ بل تمنحهم كامل رضاها وحنانها وقبلاتها وربما شفتيها ليس لأنهم أثرياء ولا لأنهم يملكون جاه أو سلطان وليس لأنهم فنّانين أو مبدعين أو حتى وسيمين ، هي تختارهم وفق مزاج معقد وألوان متداخلة تختارهم لتحبهم  وتقربهم كالنورس حتى لو كانوا مجرد عمّال المهم أنها قررت أن تحبهم والتزمت بهذا القرار .
دبي مدينة عربية باستايل غربي تعشق المتاحف وكأنها فتاة يابانية وتلتزم بالأنظمة والقوانين تتقبلها تماما ولا تخالفها وفي ذات الوقت فهي مدينة سخيّة إلى حد التبذير ، دبي لا تغار من المدن المجاورة ولا تكرهها وتتعامل معها بكل حياد أما في المفاضلة فهي تفضل الرجال وتصادقهم وتقترب منهم أكثر من النساء .
عندما تغضب ويعتريها الغيم وتكفهر ملامحها تنتظر أمطارها تسيل على خديها ولكن هذا لا يحصل ! كل ماتفعله تعود لكتابها ذو الألف صفحة تتصفح عشرات الصفحات وأحيانا مئات في بضع ثواني لتنسى غضبها ، في خضم ذلك تقهقه فجأة ؛ تنظر إليها تسألها ماذا جرى تجيبك بأن عبارة في الكتاب الذي تقرأه أضحكتها ، تسأل عن تلك العبارة تجدها عادية ولكن دبي قولبتها بطريقتها الخاصة وجعلت منها فنّاً ساخرا وسردا شيقا يستحقُ القهقهة .
دبي مدينة لا يشرد ذهنها كثيرا ولا يتشتت ولكنها عندما تفعلُ ذلك تحيل الأجواء إلى كآبة وملل ، وفي أوقات قليلة قد تزعجك ولكنك لا تملك إلا أن تحتويها هي تستحق الاحتواء لأنها تقدم لك الفرح . مدينة مثل دبي لا تحب البقاء في البيت ولا تعود إليه إلا للنوم فقط أغلب أوقاتها خارج المنزل هي مدينة الشمس والقمر مدينة النجوم والأبراج المنتصبة عليها بحذر لتمنعها من الطيران والتحليق عالياً ، دبي مدينة دافئة لا تعرف البرد رغم الغيوم التي تعتريها أحيانا وقد تمنحك بعض نسمات الهواء اللذيذة في فترة متأخرة من الليل وبعض أطراف النهار ، لاتحب أن يتم عزلها أو يغلق أحدا عليها الأبواب وابتداء من الصباح الباكر تضع احمر الشفاه على شفتيها والظلال على عينها وتخرج بصحبتهما ، لا تستخدم المكياج كثيرا قد لا تحتاج إليه لأنها بيضاء البشرة ، بها بعض المسحة الفارسية عينيها الواسعتين وشعرها الناعم والمنسدل خلف ظهرها بألوانه الزاهية ملامحها بشكل عام تقول ذلك ، هي ليست مدينة فاضلة ولكنها ذات قبول للآخرين ، هي مدينة حمراء ولكنها تحب الألوان الفاتحة وترتدي الأبيض كثيرا ولا تتعرى إلا في غرفتها الخاصة .
دبي لديها القدرة على قراءة مافي نفوس الآخرين واكتشاف مايفكرون به قد تقرأ ذلك من خلال عينها وأحيانا ربما تقول أن لديها شياطين يخبرونها بما يفكر به الشخص المجاور لها ، لديها بعض الملاحظات الدقيقة مرة قالت : من يحب (شارع العطايف) لايحب (ترمي بشرر) والعكس صحيح ، وكأنها تقول من يحب جدة لا يحب الرياض ومن يحب الرياض لا يحب جدة .
دبي مدينة تملك من الذكاء الكثير وتفكر في عشرات الأشياء في وقت واحد يخال إليك أحيانا أنها مدينة عبقرية تعرف كل شي ولكنك تستغرب أحيانا عندما تجدها لا تعرف بعض الأشياء البديهية ، دبي تتكلم الانجليزية بطلاقة وسرعة وتستوعب المتحدثين بها بسرعة أيضا تتعامل معها كالعربية تماما ، هي مدينة متعددة ومنفتحة تستوعب الكثير من الأطياف والمذاهب والثقافات والعادات ، مدينة ذات لهجة خليجية ولكنها بيضاء وواضحة للآخرين .
ليس لديها ولعاً كثيرا بأشكال الناس ولا تبيّن أن لديها ميول للتصوير إلا أنها تلتقط الصور دون أن يشعر الآخرين وربما التقطت لهم الصور وهم في أوضاع لا يحبذونها ولكن لأنها دبي فهم يتقبلونها منها برحابة صدر وابتسامة رضى .
دبي مدينة لا ترتدي الجينز ولا تهتم بالبرستيج ولكنها في الوقت ذاته ليست بالمدينة الشعبية هي مزيج من هذا وذاك ؛ وربما نقول أنها تخلو من هذا وذاك ؛ هي مدينة معقدة بل مدينة سهلة ، كم أنتِ غريبة يادبي ..لازالت عاجز عن وصفها وتحديد هويتها؛ لازلت أجهلها !

الجمعة، 30 أكتوبر 2009

مهلا أحمد الصغير

أيام طفولتي ومراهقتي كانت مصادر الفرح والبهجة نادرة! وقد كنت أحد هذه النوادر المبهجة ياسيدي، كانت صورك تزين جدران غرفتي وكنت محورا أساسيا في أحاديث الرفاق .. أهدافك .. شوتاتك.. تمريراتك القاتلة .. شخصيتك في الملعب .. كان ركضك أمامنا أيام الدوري الممتاز والكأس ودورات الخليج يشكل فرحنا نحن الصبية ويمثل القدوة لنا في الملعب .
ذرفت الدمع عندما اقتحم والدي ذات نهار غرفتي ومزق إحدى صورك الجميلة ، لم أحب لاعبا مثلما أحببت أحمد الصغير كنت نجمي الوحيد ، بعد حفلة اعتزالك اتصلت بك وسألتك هل ستستقر هنا في جدة يا أحمد أجبتني ضاحكا .. وين أروح؟! التقيتك مرة في إحدى الدوائر الحكومية جالس في مكتب مدير تلك الدائرة . سألته طلبي وخرجت وعندما خرجت قلت لنفسي يااااااااااااااه أحمد الصغير! والله زمان يا أحمد ! تمنيت أنني تحدثت معك إلا أنني منيت نفسي بأنك ستصبح صديقي يوما ما .
مرّت الأيام سريعا ورحلت سريعا يا أحمد ،عندما لم تصبح الملاعب لائقة بك كلاعب فذ اعتزلتها وعندما لم تليق بك كمدرب حازم أيضا تركتها ، الدنيا كلها يا احمد لم تعد تليق بعظيم وانسان كريم مثلك لذا آثرت الرحيل .
"رحمك الله يا أحمد .. اللهم عافه و اعف عنه و أكرم نزله و أوسع مدخله واغسله بالماء و الثلج و البرد ونقّه من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس"